Thursday, October 16, 2008

هل عجز الجمهور العربي عن فهم « مظفر النواب» ؟

هل عجز الجمهور العربي عن فهم « مظفر النواب» ؟


الجمعة, 18 يوليو 2008
دمشق - عاصم جمول

شعراء كثيرون مروا على عتبات اللغة العربية، وكثيرون منهم امتلكوا ناصية الشعر عن جدارة، لكن واحداً فقط استطاع أن يقتلع بكلماته الرغبة الدفينة للكثيرين بالتمرد على واقع قاس، لكن ليس بقسوة كلماته، إنه مظفر النواب الذي أطل على الشعر العربي كقاموس تتطاير الكلمات من صفحاته.

كلمات تئن تحت فجاجة الواقع الذي عاشه متمردا على كل تفاصيله، هو يرى باللمس فعلا في وقت سلبوا فيه إمكانية النظر إلا إلى ما يريدون، ولا غضاضة أو ابتعاد عن الواقع حين نقول إن مظفر النواب استطاع أن يسيس أعقد أصناف الشعر العربي فكان بين يديه طيعا طليقا بزخم هائل من المصطلحات الفجة اللينة في آن واحد، ورغم استخدامه لكلمات يمكن وصفها بمعزل عن القصيدة بأنها غير مألوفة في الشعر الحديث، إلا أن توظيفها في حالات انفرد النواب بوصفها، جعلها تفقد تلك الصفة لتكون أبلغ تعبيرا عن المشاعر التي تحملها القصيدة، وفي الوقت الذي يوصف فيه النواب بأنه الشاعر السياسي القاسي، استطاع أن يثبت للغة والجمهور على حد سواء بأنه من شيوخ شعر الغزل، فمن يقرأ قصيدته (لحظة في حمام إمرأة أموية ساخنة) يجد أنه وصف جسد الأنثى بما عجز عنه من اختصوا بهذا النوع من الشعر فكانت الأنثى حاضرة في شعره بشكل عام، كما كانت حاضرة في شعره السياسي المحكي باللهجة العامية ففي قصيدة «البراءة» يبرز النواب الأمهات والأخوات اللواتي يشحذن همم الرجال من خلال نداء رائع يطلقنه لئلا ينخرط رجالهن بما يتعارض مع الواجب الوطني. وامتاز النواب بتصوير هذا الجانب من الحياة العراقية البسيطة التي كانت تعتبر الحزب هو البيت والأب والضامن لكل أشكال الحياة، ويبرز ذلك بشكل جلي حين يقول مظفر عن لسان تلك الأم التي تطلب من ولدها أن يحافظ على وطنه وحزبه:

«أبيض عيونك

..لبن صدري

وسواد عيونك

..الليل اللي عد مهدك قضيته

وأبنك التوّ يناغي الخرز

بالكاروك ياابني

كتلة لا تخاف اليتم جده

اللي ما يشوبو عده

الحزب أبوه الحزب بيته»

يبدو أن مشكلة التواصل مع الجمهور كانت إحدى المشاكل التي أرقته طويلا، نتيجة عدم فهم الجمهور أو ربما عدم تقبله لنمط شعر النواب وأحيانا كثيرة كان يشعر النواب بأنه عدم فهم مقصود، ويتضح أن سوء التواصل هذا كان يسبب حالة من الفوضى في ذهن الشاعر الكبير، ولكن لدى العظماء كثيرا ما تكون هذه الفوضى خلاقة، فعبر مظفر عن ذلك بقوله: ( ألّا أُفهم...تنتابني نكهة حزن، ولكن أشياء كثيرة لا تفهم في هذا الكون...أن يُتقصَّدَ عدم فهمي، فذلك يضع في طريق عشقي للناس حجر )، وربما أتت هذه المقولة بعد أن وُصِفَ النواب من قبل الكثيرين بأنه شاعر السياسة والهجاء اللاذع فقط، ولكن الحقيقة أن النواب ليس شاعرا سياسيا والشعر بحد ذاته هو حالة جمالية تهدف إلى الارتقاء بالإنسان إلى مستوى ذلك الجمال والشعر يتقاطع مع السياسية كما تتقاطع السياسة مع كل شيء بما فيه خبزنا اليومي، إذا فإن مقولة أن النواب هو شاعر الهجاء السياسي فقط هي مقولة بعيدة عن الحقيقة فشعر النواب يحمل كافة أطياف الإبداع الأدبي وخاصة في جانب القصيدة العامية التي امتاز بها عن جدارة.

مظفر والقصيدة العامية

ولكون البيئة التي عاش فيها المراحل الأولى من عمره هي بيئة ذات طابع ريفي فقد كان لها تأثير واضح على البناء الشعري في قصيدته فكان النواب من القلائل الذين وصلوا بالقصيدة العامية إلى حدود الجنون الشعري عن طريق الكلمة السهلة الممتنعة والصور التي تجعل المتلقي يتحسس أبعادها فتعمل على تشغيل مخيلته لالتماس الجمال الكامن فيها وبمستوى لا يقل أبدا عن المستوى الذي كتبه شعراء كبار آخرون في القصيدة الفصيحة الموزونة، إن لم نقل إنها من مستوى شعري أرفع.

ويمكن القول إن النواب استطاع أن يحرر القصيدة الشعبية من القيود التي كانت تحكمها لفترة طويلة وأطلق العنان لمخيلته الشعرية فاستطاع أن يثبت للجميع مقدرة اللهجة المحكية على حياكة القصيدة بما لا يقبل الشك بكونها قصيدة تمتلك من الأهمية ما يكسبها صفة الخلود، وهذا ما دفع الكثيرين من مطربي العراق إلى تلحين قصائده وعلى رأسهم المطرب ياس خضر حين غنى قصيدة «الريل وحمد» تلك القصيدة التي حملت ملامح الريف في جنوب العراق وامتلكت هذه القصيدة من الخصوصية ما جعل الكثيرين يكتبون عنها مثلما فعل الشاعر سعدي يوسف حين قال: ان شعرنا العربي تسيطر عليه الهوية العالمية وهذه القصيدة زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي. وهو بهذا المعنى إنما يعتبر هذه القصيدة نقلة نوعية انتقل بها النواب من السياق التقليدي للقصيدة المحكية إلى مناخ جديد انفرد به النواب، وتعود عناصر البيئة والمنزل لتؤكد حضورها في قصيدة «الريل وحمد» حين يقول مظفر في أحد اللقاءات: ثمة عوامل كثيرة أثرت في كتابة هذه القصيدة ومنها ممارستي للرسم، والأجواء العائلية المشبعة بالموسيقى إذ إن والدي كان يعزف على العود، ووالدتي على البيانو، بالإضافة إلى الأجواء الكربلائية. كل هذه العوامل لعبت دورها في تشكيل القصيدة وشكلت عالما مختلفا عن غيره في القصائد العامية الأخرى.

وبكل تأكيد لم تكن قصيدة الريل وحمد هي القصيدة الوحيدة التي لحنت وغنيت فيما بعد فقد غنى المطرب العراقي سعدون جابر قصيدة مو حزن وغيرها، كما غنى فؤاد سالم قصيدة عودتني :

«عودتني

.. انتظر

وارسم على الأيام موعد

كَتلي.. من يعتك جرح.. جرحين

يتلاكًه وجعها …

وعودتني ..

اترك إبيتك

..بطاقة عيد وموعد

واكتب أببابك اذا مسافر

جملتين …

ولكًيتك سافرت

من غير رجعة

وعودتني» .

ولعل اكثر ما يؤكد حضور القصيدة الشعبية وتمكن الجمهور غير العراقي من فهمها أو ربما بذل الجهد لأجل فهمها في كثير من الأحيان «لما تحمله من خصائص ومفردات البيئة العراقية» هو طلب الجمهور لها خلال الأمسيات التي أقامها مظفر النواب في الدول العربية وأذكر مثلا في أمسيته التي أحياها في مكتبة الأسد في دمشق منذ عدة سنوات أن الجمهور السوري كان يطالب النواب بالقصائد العامية مرارا خلال الأمسية وكان واضحا مدى الانسجام معها، ما يؤكد فهم الجمهور لمفردات القصيدة المغرقة في المحلية.

إذاً استطاع مظفر النواب أن يكون لنفسه اتجاها شعريا ومدرسة شعرية خاصة وهذا الاتجاه كان له تأثير كبير على الشعراء الذين لحقوا به وحقق شعبية كبيرة، وكان مظفر أحد الشعراء القلائل الذين ذاع صيتهم قبل أن يصدر لهم ديوان مطبوع فكانت قصائده العامية كالبراءة وسعود والريل وحمد وغيرها الكثير الكثير من القصائد تتناقل بين الأيدي بكثرة وعمد البعض إلى تجميع القصائد التي يلقيها مظفر بصوته ليحفظوها على أشرطة الكاسيت وحققت مبيعات كبيرة في بعض الدول مثل سورية وما تزال تتداول حتى الآن سواء عن طريق الكاسيت أو الأقراص الليزرية المضغوطة مع ازدياد الطلب عليها وخاصة أن العمر والمرض أبعد النواب عن جمهوره منذ فترة لا بأس بها.

مناخات الشعر

وبهذا الخصوص يقول الشاعر السوري علاء الدين عبد المولى في شهادته العابرة في شاعر ليس بعابر: (مظفر النواب شاعر ظُلم كثيرا، وقد ظلم نفسه بيده أحياناً، فيما يتعلق بتأخّره الطويل في نشر أعماله الشعرية بشكل كامل، فالذي يرغب في قراءة الشاعر ليتخذ موقفاً نقدياً لا تكفيه قراءة ديوان«وتريات ليلية» وقصائد متفرقة نشرت هنا أو هناك).

أما الشاعر عبد الكريم الناعم فقد رأى أن الحديث عن النواب سهل وصعب في الوقت ذاته فهو سهل لاتساع مساحته، وصعب لاتساعها أيضا، ويعتبر الناعم من التيار الذي ارتأى أن شهرة النواب جاءت من ارتفاع مستوى الخطاب السياسي في شعره دون أن يغفل وهج ذلك الشعر ورقيه فيقول: (وإذا أردنا الخروج مما يقترب من مناخات الشعر لمناخات الالتفات إلى التفاصيل في اللوحة، فإننا نتوقف أولاً عند مسألة الشهرة والشعر، هذه المسألة، وكما هو معروف، ثمة شعراء كانت لهم من الشهرة ما هو أكبر من حجم ما لهم من الموهبة، وثمة مغبونون، عندهم من الشعر أضعاف أضعاف ما لهم من الشهرة، حتى لكأننا أمام حقيقة أن الشهرة حظ، أما مظفر النواب، فقد نال من الشهرة مجداً يغبطه، أو يحسده عليه الآخرون، بيد أن في شهرته ما هو دون بنائية شعره، ووهج ذلك الشعر، وروحيته، إذ إن شهرته، في قسم منها، انبنت في الغالب، على ارتفاع الموج للخطاب السياسي، وللموقف النضالي المعروف في حياة النواب، ولا غضّ، ولا استصغار، غير أن ذلك طغى، أو سمح بإخفاء ما هو أكثر ألقاً، وحيويةً، وإبداعاً).

المفردة وفهم المواطن

إن مظفر النواب قامة شعرية كبيرة أضفت على الشعر العربي نكهة خاصة وحملت بين طياتها ملامح القصيدة السياسية تارة والقصيدة الشعبية البسيطة المعقدة تارة أخرى واستطاع في أحيان كثيرة أن يجمع بين القصيدتين فحملت القصيدة الشعبية ملامح سياسية واضحة كما في قصيدة «البراءة» كما استطاعت القصيدة السياسية لديه أن تحمل الطابع الشعبي في بعض الأماكن كما في قصيدة الوتريات الليلية بحركاتها الأربع، فكان النواب شاعرا له أبعاده الخاصة وعوالمه الغامضة التي ينقل إلى الجمهور الجزء الخاص منها وحسب رأيه فإن الشاعر الذي لا يستطيع أن ينقل عالمه الخاص إلى الجمهور فهنالك نقص في تجربته الشعرية.

سألته ذات مرة حين التقيته في إحدى الأمسيات في مدينة مصياف السورية أين تجد نفسك أكثر في القصيدة العامية أم في تلك المكتوبة بالفصحى؟ فأجاب وعلى وجهه ابتسامته التي لا تفارقه: لا استطيع أن أفصل بين الاثنتين ففي العامية أستطيع أن أعبر عن هموم الوطن والمواطن بشكل خاص ومن خلالها يمكنني أن أوصل ما أريد إيصاله إلى المواطن العادي عبر مفردات يفهمها أكثر من غيره كما أنني من خلال العامية يمكنني أن أسرح كثيرا في خيالي لأصل إلى حد التماهي مع الجنون الشعري، أما الفصحى فأعبر من خلالها عن قضايا أكبر وأكثر شمولا كالقضايا العربية ومعظم القصائد التي كانت تتناول القضايا الكبرى كانت بالفصحى لما للفصحى من مقدرة على التعبير حين تكون القضية كبيرة.

المصدر:
http://www.awan.com/node/92490