Wednesday, December 2, 2009

قصيدة رحيل - مظفر النواب




مظفر النواب

رحيل


يا وحشـةَ الطرقات
لا خبر يجيء من العراق
ولا نديم يُسكر الليل الطويل
مضـت السنين بدون معنى
يا ضياعي
تعصف الصحرا وقد ضل الدليل
لم يبق لي من صحب قافلتي سوى ظلي
وأخشى أن يفارقني
وإن بقي القليل
هل كان عدلٌ أن يطول بي السُّرى
وتظلُّ تنأى أيها الوطن الرحيل
كأن قصدي المستحيل
نفثت بي الأحزان كل سمومها
فرفعت رأسي للسماء صلابة
ورسمت رغم السم
من عودي لها ظلاً ظليل
وتحاول الأيام
مما جرعتني اليأس
ثم هضمته أملاً
تضاعف جرعتي
فأضاعف الصبر الجميل
إني أرى يوم انتصار الناس
رغم صعوبة الرؤيا
وأسمع من هتافي في الشوارع
سيما في ساحة التحرير
نخبك يا عراق
وليس ذي أمل كليل

Monday, September 21, 2009

تغييب مظفر النواب ... أ.د عادل الأسطة

د.عادل الأسطة
كاتب عربي من فلسطين (جامعة النجاح الوطنية)
مجلة كنعان، عدد 99، تشرين ثاني/1999




لا تدعي هذه المقالة التي أتي فيها على ظاهرة تغييب النواب عن الدراسات النقدية التي تناولت الشعر العربي الحديث وبعض موضوعاته , لا تدعي الإحاطة والشمول . إنها تلقي نظرة على دراسات دارسين بارزين لهم باعٌ في دراسة حركة الشعر العربي أو دراسة بعض موضوعاته .
و تثير المقالة بعض التساؤلات حول سر هذا التغييب . و هي لا تطمح إلى أكثر من ذلك , والى لفت أنظار الدارسين إلى ما يشوب دراساتهم من اغفالٍ , بوعيٍ أو دون وعي , بحسن نيةٍ أو سوء نية , لأمر يدركونه أو لأسباب خارجة عن إرادتهم .

كان مظفر النواب وما زال , يشكلُ ظاهرة شعرية فريدةً في الشعر العربي المعاصر , ولا أظنُ أنَّ هناكَ شاعراً آخرَ , في تاريخ الشعر العربي كله منذ امرئ القيس حتى محمود درويش يشبه صوته ؛ صوت مظفر في فرادته واختلافه , وان تشابه صوته أحيانا و أصوات شعراء المعارضة والاحتجاج مثل ابن مفرغ الحميري وأبي الطيب المتنبي وبشار بن برد . يتشابه صوته الشعري وأصوات هؤلاء ولكنه يختلف عنهم في أنه ؛ في هجائه ؛ بلغ مدى لم يبلغه أي منهم في حدود ما اعرف , ويختلف عن بعض هؤلاء , في أنهُ - حتى الآن - لم يمدح حاكما من الحكام . ولئن كان مظفر يستعيرُ من المتنبي مفرداته القاسية لهجاء الحكام ليهجوَ بها الحكام المعاصرين , فإنه ينميها ويزيد عليها , وفي الوقت نفسه لا يمدح هؤلاء إن وعدوه ببعض العطايا .

والذي لا شك فيه هو أن مظفرا ليس شاعر هجاء وحسب , فأشعاره لا تخلو من قصائدٍ يتغزل فيها بالخمر , وأخرى يعبر فيها عن حبه لهذه المدينة أو تلك . وهو فوق هذا ذو خيال شعري يضاهي خيالَ كبارِ شعراءِ العربيةِ المعاصرينَ , إذ غالبا ما يلجأُ إلى التعبير من خلال الصورة , أو من خلال استعارةِ رموزٍ تاريخيةٍ لها في الواقع المعاصرِ ما يشبهها تجربة أو سلوكا , وهو في هذا يبتعدُ عن المباشرة في القول , ويُغني نصه الشعري ليصبحَ من النصوصِ الممتلئةِ التي يقفُ أمامها المرءُ طويلا ؛ ويقول فيها الشيء الكثير . و إذا ما التفتنا إلى لغته وجدنا أنفسنا أمام لغة شاعر قرأ تراثه و تأثرَ بِه وكتب بلغة على قدرٍ من الفصاحةِ حتى ليَجِدُ فيها القارئُ - غيرَ المطلعِ جيدا على التراث ؛ لغة لا تخلو من صعوبة .

وعلى الرغم من أن مظفرا واحدٌ من أكبر شعراء العرب المعاصرين إلا أنه أكثر شاعر مغيّب في الدراسات التي تناولت الشعرَ العربي المعاصر , تماما كما أنه مغيّبٌ عن المختاراتِ الشعرية العربيةِ المعاصرةِ , ويُلاحظ الشيءُ نفسه أيضا مع كتب السير والسير الذاتية , حيثُ لم يرد – في أكثر هذه – نبذةٌ عن حياته تُعَرِفُ به .

و يتساءلُ المرءُ عن سرِ هذا التّغَيُّب , أيعودَ مثلا إلى قسوة الشاعرِ في نصوصه على الأنظمة العربية و هجائها هجاءٌ مرا دفعها إلى تغييب نصوصه في بلدانها ؟ ونحنُ نعرفُ أن أشعار الشاعر مطبوعةً غير متوفرة في كثير من البلدان العربية , وقد صدرت في بيروت والأرض المحتلة وليبيا وباريس ولندن . وما من شك في أن الأسباب المفترضة الأخرى متعلقة في السبب المذكور . فالأكاديميون والمثقفون الذين يوجدون في هذا البلد العربي أو ذاك , لا يجرؤون عن الكتابة عن شاعر هجا الحاكم , فكتابتهم قد تكلفهم أشياءَ كثيرة ؛ أقلها المساءلة عن السبب الذي حدا بهم إلى اختيار هذا الشاعر للكتابة عنه .

إن نظرةً على المجلات العراقية الصادرة – منذ بزغَ نجمُ هذا الشاعر , تُري كم هو مُغَيَّبٌ عنها ؛ ولكن المرء لا يفاجأ , فالنواب شاعر معارضة , وكان ينتمي إلى الحزب الشيوعي الذي كان على خلاف مع حزب البعث , ولم يكن – أي النواب – يتوانى لحظةً واحدة في هجاء الخصوم , وحزب البعث تحديدا , وهناك مقاطع عديدة في شعره يبدو فيها هجومه العنيفَ على الحزب المذكور الذي قال بالوحدة وأضاف القطرية ذيلا قبليا , بل إنه ذكر بعض القادة تصريحا , ومن لم يصرح باسمه لمح إليه بمفردات تغني عن التصريح . و لكن المرء يفاجأ حين يلقي نظرة على مجلة " فصول المصرية " , وبالتحديد على أعدادها التي تناولت الشعر العربي المعاصر , أو تلك التي خصصتها للرموز الشعرية العربية مثل : شوقي وحافظ وصلاح عبد الصبور , ف " فصول " لم تدرج أيه دراسة تختص بالنواب , والسؤال الذي يثيره الدارس هوَ : أيعودُ السبب إلى الدارسين أنفسهم أم إلى هيئة تحرير المجلة ؟ , وهل امتنعت الأخيرة عن نشر دراسات وصلت إليها أم أن أي دارس لم يخص النواب منذ عام 1980 بأية دراسة ؟ , أو أن الدارسين تبنوا رأي الشاعر مريد البرغوثي الذي قاله مؤخرا في نابلس , وهو رأي يرى في النواب " شاعرا عابرا أو شاعر مرحلة و شاعر موضة " ؟ .
سوف أشير إلى بعض الدراسات التي تناولت حركة الشعر العربي المعاصر , وأتوقف أمام بعض جوانبها وأشير إلى قصائد مظفر النواب , لأوضحَ أن ما صدر عنه لا يقل قيمة عما صدر عن غيره , وأن إهماله لم يكن لقزامة مكانته الشعرية , وسوف أشير أيضا إلى بعض المختارات الشعرية وبعض المعاجم الأدبية أو الشعرية لأوضح الغبنَ الذي لحق بالشاعر .



أولا : دراسات لم يؤتَ فيها على ذكر النواب :

الدراسة الأولى التي أرغب في الإتيان عليها هي دراسة الدكتور احسان عباس " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " ( 1977 ط 1 – 1992 ط 2 – 2001 ط 3 ) . والدكتور عباس أحد أبرز دارسي الشعر العربي قديمه وحديثه , وله باع طويل في التأليف , وهذا ما لا يخفى على أي دارس . وهوَ , بالإضافة إلى قراءاته الطويلة , التقى – بحكم إقامته ؛ سابقا – في بيروت وتدريسه في الجامعة الأمريكية فيها , بالعديد من الشعراء , ولا أظن أنه فوّت على نفسه الذهاب إلى أمسيات الشعراء , حين كان هؤلاء يزورون بيروت ليلقوا قصائدهم فيها .

وقد تشكل كتاب الدكتور عباس من : تمهيد و ثمانية فصول وملحق , ألقى في الأول نظرة تاريخية موجزة , وعالج في الثاني دلالة البواكير الأولى وتحدث في الثالث عن العوامل التي تحدد الاتجاهات الشعرية وعالج في بقية الفصول موقف الشعراء من الزمن والمدينة و التراث و الحب والمجتمع , و ضم الملحق قصائد لنازك الملائكة والسياب و البياتي و القاسم وخليل حاوي و ادونيس , و أشار في ملحقه إلى أنه ليس مختارات من الشعر المعاصر , وإنما يضم بعض القصائد التي وقف عندها , حتى يستطيعَ القارئ , أن يربط بينها وبين ما قاله عنها في متن الكتاب .

وقد خلت الدراسة من تناول النواب أو التمثيل بشعره . فهل اكتفى عباس بثلاثة شعراء عراقيين هم البياتي والسياب والملائكة ؟ , إن قراءة الكتاب تشير إلى انه أتى على غيرهم مثل حميد سعيد , والسؤال الذي يثار هنا هوَ : لماذا لم يأت د.عباس على شعر مظفر النواب ؟ أيعودُ ذلك إلى أنه لا يرى فيه شاعرا كبيرا ؟ أم انه رأى في الإتيان على شعر النواب مجازفة خطرة , قد تسبب له – وهو الأكاديمي الذي لا يرى في ذاته عقائديا يلتزم بأيديولوجية ما تحتم عليه اتخاذ موقف حاد يترتب عليه إشكالات ما - تسبب له إشكالات عديدة ؟

طبعا علينا أن لا نغفل اللحظة الزمنية التي أنجز فيها عباس دراسته – أي عام 1977 – ولم يكن تاريخ النواب الشعري مساويا لتاريخ أولئك الذين درسهم , فقد بدأ الثلاثة المذكورون كتابتهم الشعر , قبل أن يصبح النواب شاعرا , بعشرين عاما . ربما يكون هذا سببا , ولكن علينا في المقابل ألا ننسى أن النواب لفت الأنظار إليه منذ كتب قصيدته الأولى عام 1969 , وأنه أصبح في أوائل السبعينات الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي , وقد صدرت له في هذه الأثناء مجموعة " وتريات ليلية " , وكانت بيروت هي الحاضنة لها , فهل غابت عن الدكتور عباس ؟!

وما ليس الشك فيه أن الموضوعات التي أتى عليها المؤلف كانت ذات حضور في أشعار النواب , وإتيان هذا على القدس وتصويرها على أنها عروس مغتصبة اشتهر أكثر من اشتهار المقطع الذي استشهد به د.عباس لحميد سعيد . وهنا نأتي على التساؤل الثاني : لعل المؤلف رأى في مقطع النواب مقطعا خطيرا والاستشهاد به يشكل مجازفة خطرة قد تمنع الكتاب الذي صدر في الكويت من رؤية النور ومن دخول أكثر البلدان العربية , وقد يترتب على هذا اشكالات تمس الدكتور عباس نفسه , فيمنع بدوره من دخول بعض الأقطار العربية . و أرى أيضا أن موقف النواب من المدينة ومن التراث برز في أشعاره , حتى عام 1977 , بروزا لافتا للنظر , بروزا يضاهي بروز الموضوعين في أشعار الشعراء الذين استشهد المؤلف بقصائدهم , إن لم يفق النواب الآخرين , في هذا الجانب . و " قراءة في دفتر المطر " ( 1969 ) , و "وتريات ليلية" ( 1973 ) يعدان مثالا جيدا .

الدراسة الثانية التي تجدر إليها دراسة د.علي عشري زايد " استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر " – ( 1977 ط1 – 1997 ط 2 ) و تُظهر لنا نظرة على فهرس الشعراء والقصائد المعاينة ( ص 296 – ص 307 ) غياب اسم النواب نهائيا , فلم تعاين قصائده التي نشرت في الصحف والمجلات . ولعل الدكتور زايد , حين يقرأ النواب يدرك أنه تجاوز شاعرا كان له في توظيف التراث باع طويل , وكان له منه – أي التراث – موقف يستوقف الدارس . و لا نريد أن نظلم الدارس فقد اعتمد في دراسته على نصوص صدر أكثرها قبل عام 1972 , ولم يكن اسم النواب في حينه , شائعا . غير أن ما يلفت النظر هو أن الدارس في طبعته الثانية ( 1997 ) لم يجر أي تغيير , وبالتالي فلم يذكر النواب إطلاقا . و هنا يمكن الإشارة إلى دراسة د.خالد الكركي في هذا المجال , لقد أتى في كتابه " الرموز التراثية في الشعر العربي الحديث " ( 1989 ) على ذكر مظفر , ولكنه لم يوضح إن كان توظيف النواب للتراث توظيفا جزئيا أو كليا , لقد كتب الكركي عن النواب في أثناء الكتابة عن استحضار الرموز التراثية الثائرة " الأفراد الثوار " , ومع أن المؤلف اعتمد على ديوانين للشاعر هما " وتريات ليلية " و " أربع قصائد " , وهما مجموعتان تحفلان بالرموز التراثية إلا أنه لم يورد الكثير عن هذا الجانب في أشعار النواب . و يتساءل المرء هنا عن السبب : أيعودُ إلى طبيعة دراسة المؤلف التي تأتي على هذه الظاهرة ظاهرة توظيف الرموز التراثية , بشكل عام , وأنه لم يدرس نصا واحدا دراسة تحليلية مفصلة ؟ , أم يعود السبب إلى أن الكركي أراد أن يقدم لنا دليلا على جرأته التي لم تبلغ مداها ؟ أم أنه أراد أن يقول – بطريقة غير مباشرة – إن ثمة حرية في الأردن , و ها أنا أتناول شاعرا هجا النظام في شخص رأسه الأول ؟

في كتابه " جدل الحداثة في الشعر " (1985 ) يتناول المؤلف وفيق خنسة النواب لينتقص منه . لقد صدّر هذا الشاعر السوري كتابه بمقولات لماركس ولينين و الشيوعي اللبناني محمد دكروب , وتناول مفهوم الحداثة و درس شعراء عديدين منهم أحمد عبد المعطي حجازي و عبد العزيز المقالح و محمد الفيتوري وأدونيس . ومن المؤكد أن المرء لا يفاجأ بأحكام الشاعر , فما دام مؤيدا لأحزاب شيوعية عربية , وما دام معجبا بأدونيس إعجابا كبيرا عبر عنه بالعبارات التالية :
" أن تقرأ أدونيس يعني أن تتهيأ لأنك مدعو لطقس جديد ... أنت مطالب بكل الحضور وكل التذوق وكل الإقبال في احفال بهي للعقيدة .. أنت لا تستطيع أن تقرأ أدونيس وأنت تدير ظهرك للكيمياء , لأن الجمالية لدى ادونيس تتأسس على انفتاح اللغة الشعرية , على خلع أبواب القابلية .. " ( 125 ) .

فإن المرء لا يفاجأ وهو يقرأ التالي عن النواب :
" إن وتريات ليلية نهاية منهج شعري وقمته بآن واحد , ولكن هذا الاتجاه خرب جمالية القصيدة , وهدر الكثير من موهبة الشاعر دون مقابل " ( ص 43 ) .

ويعقب على مقطع النواب :
" يا حكاما مهزومين
ويا جمهورا مهزوما ..
ما أوسخنا ..
لا أستثني أحدا "
قائلا : " بوضوح هذا الكلام ليس شعرا , انه شتائم رخيصة وسوقية " ( ص 42 ) , ويتساءل المؤلف قائلا : " ترى هل صحيح أننا وسخون , أبناء الأعداء , بدءا بالثورة الفلسطينية , وانتهاء بالثوار الذين يسقطون شهداءً بالعشرات كل يوم في الوطن العربي ؟" ( ص 42 ) .

و على الرغم من أن النواب كتب الوتريات ما بين ( 72 - 1975 ) , وعلى الرغم من انه كتب بعدها قصائد يمجد فيها الفدائي , مثل قصيدة تل الزعتر , التي يخاطب فيها الحكام :
" أتحدى أن يرفع أحد منكم عينيه أمام حذاء فدائي يا قردة .. "
إلا أن الخنسة لم يشر إلى هذا التغير في موقف النواب . إن بحث المؤلف عن جمالية القصيدة وحداثتها جعله يثمن دور ادونيس هذا التثمين , وحتى لا يشتم بأنه رجعي صدّر كتابه بعبارة لينين :
" حتى نستطيع تقريب الفن من الشعب , و تقريب الشعب من الفن , ينبغي علينا , في البداية , رفع المستوى التعليمي والثقافي العام " ( ص 7 ) . ونزول النواب إلى مستوى الجماهير , وكتابته شعرا ينتقل فيه الشاعر مباشرة إلى : نثرية هي أقل جمالا من الصياغة الصحفية اليومية " , هو ما جعل منه في نظر المؤلف , نهاية مرحلة شعرية في آن , ولم يتساءل الدارس لماذا تمنع الأنظمة العربية أشعار مظفر ولا تمنع أشعار أدونيس التي ترحب بها ؟ ولا أريد أن أقدم على هذا السؤال , السؤال التالي : لماذا تصغي الجماهير إلى مظفر ولا تقرأ أشعار ادونيس ؟ ولا شك أن الخنسة سيجيب : اقرأ مقولة " لينين " التي صُدِّر بها الكتاب .

دراسة أخرى أرغب في الإتيان عليها , هي دراسة الدكتور خالد الكركي " حماسة الشهداء : رؤية الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث دراسة ومختارات " ( 1998 ) .
يُعد هذا الكتاب أطول دراسة درست موضوع الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث , وهو أيضا أحدثها ؛ أحدث الدراسات . وليس هناك تاريخ يوضح متى بدأ الدارس في انجاز دراسته التي قدم لها د.احسان عباس في كانون الثاني 1998 , أي أنها كانت أُنجزت في عام 1997 , وقبل هذا العام بعام , صدرت من لندن , الأعمال الكاملة لمظفر النواب , وقد خلت قائمة مراجع الكتاب من الإشارة إليها , وهذا يعني أن المؤلف لم يطلع عليها , وان كان أتى بإيجاز على موضوع الشهيد في أشعار مظفر , معتمدا على بعض القصائد التي وردت كتاب باقر ياسين " مظفر النواب : حياته وشعره " ( 1988 ) . وفي العودة إلى كتاب د.الكركي " الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث " ( 1989 ) , نلحظ أنه يمتلك " وتريات ليلية " و"أربع قصائد " , وهما مجموعتان تخلوان عموما من قصائد رثى فيها الشاعر الشهداء . وعليه فإن المرء , للوهلة الأولى , يتجاوز إهمال المؤلف لدراسة قصائد النواب التي خصصت للشهداء . وحين يمعن المرء النظر في كتاب باقر ياسين , ويقرأ الملحق الخاص الذي أفرده المؤلف لبعض قصائد النواب , يستغرب المرء لماذا لم يورد الدارس إحدى هاتين في الملحق الذي اتبع فيه دراسته , ولماذا لم يقف أمامهما , أبضا , وقفة متأنية ؟ , وما أراه هو أن صورة الشهيد في أشعار مظفر النواب تحتاج - بعد إلى إصدار أعماله الكاملة - إلى دراسة . فأعماله تضم العديد من القصائد التي رثى فيها الشهداء , وتقدم صورة تبدو - إلى حد ما -مختلفة , وربما تبدو على قدر من المبالغة التي ينفر منها بعض المسلمين .

يختار الدكتور صلاح فضل في كتابه " أساليب الشعرية المعاصرة " , يختار شعراء مشهورين ليدرس بعض قصائدهم , يختار أدونيس ونزار قباني و محمود درويش وسعدي يوسف والسياب و الماغوط وعفيفي مطر والبياتي وصلاح عبد الصبور . وتمثيل شعراء العراق كما هو واضح , تمثيل جيد , ويقر المؤلف بأن رضا الشعراء غاية لا يمكن أن تنال , وكان اختياره للشعراء عائدا إلى ما يمتاز به كل واحد من المدروسين , فلكل منهم نهج ما يجمع ما بين التعبير والتجريد .
وإذا أتينا على دراسات بعض الدارسين العراقيين , ألفينا بعضهم لا يشير إليه , في حين يقر آخرون بشاعريته وتميزه .

يخلو كتاب حاتم الصكر " كتابة الذات : دراسات في وقائعية الشعر " ( 1994) من أية إشارة للنواب . وربما يعود السبب في ذلك إلى أن الصكر الذي نشر كتابه في الأردن ما يزال يقيم في بغداد , وبالتالي فإن موقعه يؤثر على موقفه . والنواب , كما تعرف , شخص غير مرغوب فيه في العراق . حقا إن الصكر كتب عن البياتي , وهذا أيضا لم يُقِم , منذ فترة طويلة في العراق , إلا أننا نعرف , من خلال قراءة شعر النواب والبياتي , أن ثمة فارقا بينهما في نغمة الخطاب ومباشرة القصائد وابتعادها عن المباشرة . ويرى د. علي جعفر العلاق في كتابه : "الشعر والتلقي " ( 1997
) أن النواب : "يُعتبر بنبرته الحارة ولغته الواخزة , واحدا من الأصوات الشعرية المتميزة في الشعر العراقي الحديث " ( ص 28 ) . ولكنه يرى أن مجد النواب الحقيقي " يكمن , ربما , في أرض أخرى : القصيدة العامية " (ص 28 ) . ولا يفرد العلاق صفحات يدرس فيها أشعار النواب ويوضح ما ذهب إليه . إنه يكتفي بالإشارة إليه في فقرة لا تتجاوز عشرة أسطر .

وكما أشرت في التمهيد , فإن هذه المقالة لا تدعي الإحاطة والشمول . إنها ليست أكثر من مدخل لظاهرة تعامل الدارسين مع شاعر شكل علامة بارزة من علامات الشعر العربي في الثلاثين سنة الأخيرة . وبقي أن أشير هنا إلى كتابين صدرا عن النواب من دمشق وهما : كتاب باقر ياسين " مظفر النواب حياته وشعره " ( 1988) , وكتاب عبد القادر الحسيني وهاني الخير " مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية " ( 1996 ) .

ثانيا التغييب عن المختارات وكتب التراجم .

في كتاب " أعلام الأدب العربي المعاصر : سير وسير ذاتية " (1996) , وهو كتاب أعده الأب روبرت .ب.كامبل اليسوعي سيّر ل 380 أديبا عربيا معاصرا , ليس النواب واحدا منهم , وربما يكمن سبب استبعاده في أنه نشر أشعاره في كراسات و نشرات متفرقة , فلم تكن أعماله الكاملة , في أثناء إعداد الكتاب الضخم , قد صدرت . ولعل الإشارة التي صدر بها المشرف على الكتاب كتابه تعفينا من محاكمته واتهامه بالتحيز " فلم نلتفت عند الاختيار إلا لما ظهر في كتاب مطبوع , دون المقالات المنفردة أو المراجعات أو الكراسات التي نشرت متفرقة , إلا إذا أعيد طبعها مجموعة في كتاب " ( ص 8 و 9 ) .

ولا أرى د.ميشال خليل جحا - فيما ذهب إليه في كتابه " الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش " ( 1999 ) - محقا حين كتب واقفا أمام كتاب كامبل اليسوعي :
" فكيف يسمح شخص ( أجنبي ) لنفسه بأن يتناول الأدباء والشعراء العرب المعاصرين , في كل البلدان العربية ؟! فهل باستطاعته أن يطلع على جميع هؤلاء في دنيا العرب ؟! وهل يستطيع شخص فرد , مهما أوتي من خبرة ومعرفة واطلاع , أن يدعي معرفة كل الأدباء والشعراء في اليمن أو السودان أو موريتانيا مثلا ... ؟! "(ص 7 ) .
ولعل اغفال الأب روبرت كامبل أسماء شعراء مثل صلاح لبكي وبشارة الخوري وشفيق المعلوف والشاعر القروي رشيد سليم هو سبب هذه اللهجة الحادة .

ولم يخل كتاب د.جحا من الكتابة عن النواب وحسب , فلم يدرجه ضمن الشعراء الستة والعشرين المختارين , و إنما قائمة مصادره ومراجعه التي وقعت في خمس عشرة صفحة ( من 493 – 507 ) من أية إشارة للنواب , وحين يبرر اختياره لشعراء عراقيين يكتب : " أما العراق , فإن الشاعر جميل صدقي الزهاوي ( 1863 – 1936 ) ومعروف الرصافي ( 1872 – 1945 ) و أحمد صافي النجفي ( 1895-1977 ) كممثل للشعر السياسي والاجتماعي الذي يصور واقع العراق الحديث . أو بلند الحيدري ( 1916 – 1996 ) الذي فضلت عليه عبد الوهاب البياتي ." ( ص 9 ) .

إن الشعراء الذين اختارهم يمثلون في رأيه " أهم وأبرز شعراء الطبقة الأولى من المعاصرين في العالم العربي , والأكثر تمثيلا لطبقتهم " ( ص 8 ) .

وإذا ما ألقينا نظرة على معجم البابطين الشعري ( 1995 ) لاحظنا أن النواب كان غائبا عنه . ولعل المرء يتساءل عن السبب أيعود إلى المشرفين على المعجم أم يعود إلى النواب نفسه !!
ولا أريد أن أجازف وأتعجل القول , فلربما يكون النواب نفسه عزف عن المشاركة في المعجم .

لم يغب النواب عن السير الذاتية أو المعاجم الشعرية وحسب , بل غاب أيضا عن المختارات الشعرية التي اشرف على انجازها بعض الدارسين العرب , ومع أنني غير مطلع على المختارات جميعها إلا أنني أعطي مثلا على ذلك . أصدر الأديب التونسي محمد علي اليوسفي كتابا عن الانتفاضة عنوانه " أبجدية الحجارة " ( 1990) , ويضم الكتاب العديد من المقالات الأدبية وقصائد لشعراء عرب وعالميين , ولكنه لم يدرج قصيدة مظفر النواب " عرس الانتفاضة " التي صدرت , ابتداء , في كراس ثم ظهرت في أعماله الكاملة . حقا إن الناشر كتب في المقدمة أن المختارات تقدم عينات كافية , وأن جهده " لا يطمح أساسا إلى حصر كل ما كتب من نصوص , بمقدار توجهه إلى رصد ظاهرة متأنية من فعل الواقع المحتدم في الشاعر ..." ( ص 5 وما بعدها ) . إلا أن الأسماء التي احتفل بها وأدرجت لها نصوص شعرية لم تقدم جميعها نصوصا شعرية متميزة تفوق نص النواب .

بقي أن أشير إلى ن إنصاف النواب دراسة وطباعة أعمال إنما تم في الأرض العربية الخارجة عن سلطة النظام العربي , باستثناء النظام السوري والليبي , فقد صدر عنه في سوريا كتابان ( 1988) و ( 1996 ) , وأذيعت قصائده من ليبيا مرارا , واحتفل به الفلسطينيون احتفالا يوازي بقضيتهم .

آمل أن تكون هذه المقالة التي لا تدعي الإحاطة والشمول لفتة , ولو بسيطة وعابرة , للانتباه إلى هذا الشاعر الذي سيشغل شعره الناس , ذات نهار , كما شغلهم شعر المتنبي .

تاريخ انجاز المقالة : تشرين ثان عام 1999






المراجع :
1- احسان عباس , اتجاهات الشعر العربي المعاصر , عمان , دار الشروق
2- باقر ياسين , مظفر النواب : حياته وشعره , دمشق , الناشر هو المؤلف , دمشق , 1988
3- حاتم الصكر , كتابة الذات : دراسات في وقائعية الشعر , عمان , دار الشروق , 1994
4- خالد الكركي , الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث , بيروت , دار الجيل , 1989 .
5- خالد الكركي , حماسة الشهداء : رؤية الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث , بيروت , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , 1998 .
6- صلاح فضل , أساليب الشعرية المعاصرة , بيروت , دار الأدب , 1995 .
7- عبد القادر الحصيني وهاني الخير , مظفر النواب : شاعر المعارضة السياسية , قراءة في تجربته الشعرية , دمشق , المنارة , 1996
8 – علي جعفر العلاق , الشعر والتلقي , دراسات نقدية , عمان , دار شروق .
9- علي عشري زايد , استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر , الكويت , دار الفكر العربي , 1997 ط 2 , ط1 1977 .
10. محمد علي مقلد , الشعر والصراع الأيديولوجي , بيروت , دار الأدب , 1996 .
11- محمد علي اليوسفي , أبجدية الحجارة , باقة الغربية , منشورات شمس , 1993 ط2 , ط1 1990 .
12 – ميشال خليل جحا , الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش , بيروت , دار العودة , 1999 .
13 – وفيق الخنسة , جدل الحداثة في الشعر , بيروت ودمشق , دار الحقائق , 1985 .




Sunday, February 22, 2009

قصيدة المساورة أمام الباب الثاني - مظفر النواب








المساورة أمام الباب الثاني

مظفر النواب


في طريقِ الـلـيل

ضاعَ الحـادثُ الثاني وضاعـتْ زهـرة الـصبار

لا تسـل عـني لـماذا جـنـتي في الـنار

جـنـتي في الـنار

فالـهـوى أسـرار

والـذي يغـضي عـلى جـمر الـغضا أسـرار

يا الـذي تخـفي الـهـوى بالـصبر يا باللّه

كـيف الـنار تخـفي الـنار؟

يا غـريـب الـدار

إنها أقـدار

كـل ما في الـكـون مقـدار وأيـام له

إلا الـهوى

ما يـومه يـوم...ولا مقـداره مقـدار

لـم نـجـد فـيما قـطار الـعـمر

يـدنو مـن بقـايـا الـدرب من ضـوء عـلى شـيء

وقـد ضج الأسى أسـراب

والـهـوى أسـراب

كـنت تـدعـونا وأسـرعـنا

وجـدنا هـذه الـدنيا محطـات بلا ركاب

ثم سافـرنا عـلى أيامـنا أغـراب

لـم يودعـنا بها إلا الـصدى

أو نخـلةٌ تـبكي عـلى الأحـباب

يـا غـريباً يـطرق الأبـواب

والـهـوى أبواب

نحـن من بـاب الـشجى

ذي الـزخـرف الـرمزي والألـغاز والـمغـزى

وما غـنى عـلى أزمانه زرياب

كـلنا قـد تـاب يـوماً

ثم ألـفى نـفـسه

قـد تاب عـما تاب

كـل ما في الـكون أصـحاب وأيام لـه إلا الـهـوى

مـا يـومه يـوم....

ولا أصحـابه أصـحاب

نخـلة في الـزاب

كـان يأتي العـمـر يقـضي صـبـوة فـيها

ويـصغي للأقـاصيص الـتي مـن آخـر الـدنيا

هـنا يفـضي بـها الأعـراب

هـب عـصف الـريح واه يـومه يوما

وانتهى كـل الـذي قـد تـاه مـن دنـيا

ومـن عـمـر ومـن أحـباب

هـاهـنا يـنهـال في صـمت رمـاد الـمـوت

يـخـفي ملـعـب الأتـراب

كم طـرقـنا بابك الـسـري في وجـد وخـوف

لم تجـبـنا

وابـتعـدنا فـرسـخاً هجراً

فألـفـيـناك سـكـراناً جـوابات

فـلم نغـفـر ولـم تـغـفـر كلانا مـدع كـذاب

كـل غـي تـاب

إنـما غـيي وغـي فـيك قـد غابا

وراء الـنرجـس الـمكـتوب لـلغـياب

قـد شـغلـنا لـيلة بالـكـأس

والأخـرى بأخـت الـكـأس

و الـكـاسـات إن صـح الـذي يسـقـيك إياها

لـها أنـسـاب

يـا غريـباً بابه غـرب الحـمى

مـفـتـوحة لـلـربـح والأشـباح والأعـشـاب

قـم بـنا نـفـح الـخـزامى طاب

نـنـتمي لـلـسر

لا تسـل لـماذا ألـف مفـتاح ومفـتاح لهـذي الـباب

لا تسـل

مـن عـادة أن تكـثر الأقـوال

فـيمن ذاق خـمر الـخـمر في الـمحـراب

لـم يـقـع في الـشـك

إلا أنه مـن لـسـعة الأوسـاخ

تـنمـو خـمرة الأعـناب

لم يقـل فـيها جـناسـاً أو طباقـاً إنـما إطـلاق

نـبه الـعـشاق

مـدنـف أودى بلا هـجر ولا وصل بـباب الـطاق

مرهـق من خـرقـة الـدنيا عـلى أكـتافـه

لـم تـسـتر الأشـجـان والأشـواق والإشـراق

لـم يـكـن أغـفى

وحـبات الـندى سـالـت عـلى إغـفائه شـوطاً

ودب الـفجـر في أوصالـه رقـراق

آه مـما فـز من إغـفاءة لم تلـمس الأحـداق

أي طيـر لا يرى إلا بما يـنجـاب عن ترديـده الـبـني

سـعـف الـنخـل والأعـذاق

موغـل في الـسـر مـندس بـنار الـماء في الأعـماق

يا طائـراً يحـكي لـماء أزرق بالـوجد في الأعـماق

ما أبعـد الأعـماق

ما أبعـد الأعـماق

لم يفـق يـوما ولـم يأبه بمـن قـد فـاق

مشـفـق مشـتاق

كـله إطـراق

أثملـت الـخـمر صحـواً

فانـبـرى يـبكي

وأطفال الـزمان الـغـر ضجـوا

حـوله سخـرية في عـالـم الأسـواق

قـل لأهـل الـحي

هـل في الـدور من عـشـق لـهـذا الـمبـتلى تـرياق

نـغـمة في الـعـشـق تـكـفي

نـقـطة تكـفي

فلا تكـثر عـليك الـحـبـر والأوراق

كـل ما في الـكـون تـنقـيط لـه إلا الهـوى

فـاحـذر

فبالـتـنقـيط نهـوي

واسـأل العـشـاق

هـاك كأسـاً لـم يـذقـها شـارب في هـذه الـدنيا

مـوشـاة بحـبات الـنـدى سـلطانها سـلطان

إنـها جـسـر الـدجى في الـمعـبـر الـسـري فـلـتعـبر

ولا تـنصت لـمن أعـياهم الإدراك والإدمان

لـم يكـن إيـوان كـسـرى مثـلما إيـوانها إيـوان

إن كـأس اللّه هـذي مـسكـها ربان

هـذه درب وقـد تفـضي إلى بـوابة الـبـسـتان

إنـما انفـض الـندامى والـمغني

فـاتـئـد في وحـشـتي

يـا آخر الـخلان